فصل: تفسير الآيات (23- 24):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (23- 24):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)}
الخطاب للمؤمنين كافة، وهو حكم باق إلى يوم القيامة يدل على قطع الولاية بين المؤمنين والكافرين، وقالت طائفة من أهل العلم: إنها نزلت في الحضّ على الهجرة ورفض بلاد الكفر، فيكون الخطاب لمن كان من المؤمنين بمكة وغيرها من بلاد العرب، نهوا بأن يوالوا الآباء والإخوة، فيكونون لهم تبعاً في سكنى البلاد الكفر إن استحبوا: أي أحبوا، كما يقال استجاب بمعنى أجاب، وهو في الأصل: طلب المحبة، وقد تقدّم تحقيق المقام في سورة المائدة في قوله تعالى: {ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَاء} [المائدة: 51] ثم حكم على من يتولى من استحب الكفر على الإيمان من الآباء والإخوان بالظلم. فدلّ ذلك على أن تولي من كان كذلك من أعظم الذنوب وأشدّها، ثم أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم: {إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ} إلى آخره، والعشيرة: الجماعة التي ترجع إلى عقد واحد، وعشيرة الرجل: قرابته الأدنون، وهم الذين يعاشرونه، وهي اسم جمع. وقرأ أبو بكر وحماد {عشيراتكم} بالجمع. قال الأخفش: لا تكاد العرب تجمع عشيرة على عشيرات. وإنما يجمعونها على عشائر. وقرأ الحسن {عشائركم}. وقرأ الباقون {عشيرتكم} والاقتراف: الاكتساب، وأصله: اقتطاع الشيء من مكانه، والتركيب يدور على الدنو. والكاسب يدني الشيء من نفسه ويدخله تحت ملكه، والتجارة الأمتعة التي يشترونها ليربحوا فيها، والكساد عدم النفاق لفوات وقت بيعها بالهجرة ومفارقة الأوطان. ومن غرائب التفسير ما روي عن ابن المبارك أنه قال: إن المراد بالتجارة في هذه الآية البنات والأخوات، إذا كسدن في البيت لا يجدن لهنّ خاطباً، واستشهد لذلك بقول الشاعر:
كسدن من الفقر في قومهن ** وقد زادهنّ مقامي كسادا

وهذا البيت وإن كان فيه إطلاق الكساد على عدم وجود الخاطب لهنّ فليس فيه جواز إطلاق اسم التجارة عليهنّ. والمراد بالمساكن التي يرضونها: المنازل التي تعجبهم وتميل إليها أنفسهم، ويرون الإقامة فيها أحبّ إليهم من المهاجرة إلى الله ورسوله، و{أحبّ} خبر {كان}: أي كانت هذه الأشياء المذكورة في الآية أحبّ إليكم من الله ورسوله ومن الجهاد في سبيل الله {فَتَرَبَّصُواْ} أي: انتظروا {حتى يَأْتِىَ الله بِأَمْرِهِ} فيكم، وما تقتضيه مشيئته من عقوبتكم، وقيل: المراد بأمر الله سبحانه: القتال. وقيل: فتح مكة وفيه بعد، فقد روى أن هذه السورة نزلت بعد الفتح. وفي هذا وعيد شديد، ويؤكده إبهام الأمر وعدم التصريح به، لتذهب أنفسهم كل مذهب وتتردّد بين أنواع العقوبات، {والله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين} أي الخارجين عن طاعته، النافرين عن امتثال أوامره ونواهيه.
وقد أخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، قال: أمروا بالهجرة فقال العباس بن عبد المطلب: أنا أسقي الحاج.
وقال طلحة أخو بني عبد الدار: أنا أحجب الكعبة فلا نهاجر، فأنزلت: {لاَ تَتَّخِذُواْ ءابَاءكُمْ وإخوانكم} الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن مقاتل، في هذه الآية قال: هي الهجرة.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة {اقترفتموها} قال: أصبتموها.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله: {حتى يَأْتِىَ الله بِأَمْرِهِ} قال: بالفتح في أمره بالهجرة، هذا كل قبل فتح مكة.
وأخرج البيهقي من حديث عبد الله بن شوذب قال: جعل أبو أبي عبيدة بن الجراح ينعت له الآلهة يوم بدر، وجعل أبو عبيدة يحيد عنه، فلما أكثر الجراح قصده ابنه أبو عبيدة فقتله، فأنزل الله: {لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر} [المجادلة: 22] الآية، وهي تؤكد معنى هذه الآية، وقد تقدم بيان حكم الهجرة في سورة النساء.

.تفسير الآيات (25- 27):

{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)}
المواطن: جمع موطن، ومواطن الحرب: مقاماتها، والمواطن التي نصر الله المسلمين فيها هي: يوم بدر، وما بعده من المواطن التي نصر الله المسلمين على الكفار فيها قبل يوم حنين، {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} معطوف على {مواطن} بتقدير مضاف: إما في الأوّل وتقديره: في أيام مواطن، أو في الثاني، وتقديره: وموطن يوم حنين، لئلا يعطف الزمان على المكان. وردّ بأنه لا استبعاد في عطف الزمان على المكان، فلا يحتاج إلى تقدير. وقيل: إن {يوم حنين} منصوب بفعل مقدّر معطوف على {نَصَرَكُمُ} أي: ونصركم يوم حنين، ورجح هذا صاحب الكشاف، قال: وموجب ذلك أن قوله: {إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ} بدل من {يوم حنين} فلو جعلت ناصبة هذا الظاهر لم يصح؛ لأن كثرتم لم تعجبهم في جميع تلك المواطن، ولم يكونوا كثيراً في جميعها. وردّ بأن العطف لا يجب فيه تشارك المتعاطفين في جميع ما ثبت للمعطوف، كما تقول: جاءني زيد، وعمرو، مع قومه، أو في ثيابه أو على فرسه، وقيل إن: {إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} ليس ببدل من {يوم حنين} بل منصوب بفعل مقدّر: أي اذكروا إذا أعجبتكم كثرتكم. وحنين: واد بين مكة والطائف، وانصرف على أنه اسم للمكان، ومن العرب من يمنعه على أنه اسم للبقعة، ومنه قول الشاعر:
نصروا نبيهم وشدّوا أزره ** بحنين يوم تواكل الأبطال

وإنما أعجب من أعجب من المسلمين بكثرتهم لأنهم كانوا اثني عشر ألفاً. وقيل: أحد عشر ألفاً، وقيل: ستة عشر ألفاً. فقال بعضهم: لن نغلب اليوم من قلة، فوكلوا إلى هذه الكلمة، فلم تغن الكثرة شيئاً عنهم، بل انهزموا وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثبت معه طائفة يسيرة، منهم: عمه العباس وأبو سفيان بن الحارث، ثم تراجع المسلمون، فكان النصر والظفر. والإغناء: إعطاء ما يدفع الحاجة، أي لم تعطكم الكثرة شيئاً يدفع حاجتكم، ولم تفدكم. قوله: {بِمَا رَحُبَتْ} الرحب بضم الراء: السعة، والرحب بفتح الراء: المكان الواسع، والباء بمعنى (مع)، و{ما} مصدرية، ومحل الجار والمجرور النصب على الحال. والمعنى: أن الأرض مع كونها واسعة الأطراف ضاقت عليهم بسبب ما حلّ بهم من الخوف والوجل؛ وقيل إن الباء بمعنى (على) أي على رحبها {ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} أي: انهزمتم حال كونكم مدبرين: أي مولين أدباركم، جاعلين لها إلى جهة عدوّكم.
قوله: {ثُمَّ أَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين} أي: أنزل ما يسكنهم، فيذهب خوفهم حتى وقع منهم الاجتراء على قتال المشركين بعد أن ولوا مدبرين، والمراد بالمؤمنين: هم الذين لم ينهزموا، وقيل: الذين انهزموا.
والظاهر: جميع من حضر منهم؛ لأنهم ثبتوا بعد ذلك وقاتلوا وانتصروا.
قوله: {وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا} هم الملائكة.
وقد اختلف في عددهم على أقوال: قيل: خمسة آلاف. وقيل: ثمانية آلاف، وقيل: ستة عشر ألفاً. وقيل: غير ذلك، وهذا لا يعرف إلا من طريق النبوّة.
واختلفوا أيضاً هل قاتلت الملائكة في هذا اليوم أم لا؟ وقد تقدم أن الملائكة لم تقاتل إلا يوم بدر، وأنهم إنما حضروا في غير يوم بدر لتقوية قلوب المؤمنين، وإدخال الرعب في قلوب المشركين {وَعذَّبَ الذين كَفَرُواْ} بما وقع عليهم من القتل والأسر وأخذ الأموال وسبي الذرية، والإشارة بقوله: {وَذَلِكَ} إلى التعذيب المفهوم من عذب، وسمي ما حلّ بهم من العذاب في هذا اليوم جزاء مع أنه غير كاف بل لابد من عذاب الآخرة مبالغة في وصف ما وقع عليهم وتعظيماً له: {ثُمَّ يَتُوبُ الله مِن بَعْدِ ذلك على مَن يَشَاء} أي: من بعد هذا التعذيب على من يشاء ممن هداه منهم إلى الإسلام {والله غَفُورٌ} يغفر لمن أذنب، فتاب {رَّحِيمٌ} بعباده يتفضل عليهم بالمغفرة لما اقترفوه.
وقد أخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة، قال: حنين ما بين مكة والطائف، قاتل نبيّ الله هوازن وثقيف، وعلى هوازن مالك بن عوف، وعلى ثقيف عبد ياليل بن عمرو الثقفي.
وأخرج ابن المنذر، عن الحسن قال: لما اجتمع أهل مكة وأهل المدينة قالوا: الآن نقاتل حين اجتمعنا، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قالوا، وما أعجبهم من كثرتهم، فالتقوا فهزموا حتى ما يقوم أحد منهم على أحد حتى جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي أحياء العرب: «إليّ إليّ»، فوالله ما يعرج عليه أحد حتى أعرى موضعه، فالتفت إلى الأنصار وهم ناحية فنادهم: «يا أنصار الله وأنصار رسوله، إليّ عباد الله أنا رسول الله»، فجثوا يبكون وقالوا: يا رسول الله، وربّ الكعبة إليك والله، فنكسوا رءوسهم يبكون وقدّموا أسيافهم يضربون بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى فتح الله عليهم.
وأخرج البيهقي في الدلائل، عن الربيع أن رجلاً قال يوم حنين: لن نغلب من قلة، فشقّ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} قال الربيع: وكانوا اثني عشر ألفاً، منهم ألفان من أهل مكة.
وأخرج الطبراني، والحاكم وصححه، وأبو نعيم، والبيهقي في الدلائل، عن ابن مسعود قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فولى عنه الناس وبقيت معه في ثمانين رجلاً من المهاجرين والأنصار. فكنا على أقدامنا نحواً من ثمانين قدماً ولم نولهم الدبر، وهم الذين أنزل الله عليهم السكينة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء يمضي قدماً، فقال: «ناولني كفاً من تراب»، فناولته فضرب به وجوههم فامتلأت أعينهم تراباً، وولى المشركون أدبارهم. ووقعة حنين مذكورة في كتب السير والحديث بطولها وتفاصيلها، فلا نطول بذلك.

وأخرج ابن أبي حاتم، عن السديّ، في قوله: {وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا} قال: هم الملائكة {وَعذَّبَ الذين كَفَرُواْ} قال: قتلهم بالسيف.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد ابن جبير، قال: في يوم حنين أمدّ الله رسوله بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين، ويومئذ سمى الله الأنصار مؤمنين قال: فأنزل سكينته على رسوله وعلى المؤمنين.
وأخرج ابن إسحاق، وابن المنذر، وابن مردويه، وأبو نعيم، والبيهقي عن جبير بن مطعم، قال: رأيت قبل هزيمة القوم والناس يقتتلون مثل البجاد الأسود أقبل من السماء حتى سقط بين القوم، فنظرت فإذا نمل أسود مبثوث قد ملأ الوادي، لم أشك أنها الملائكة، ولم تكن إلا هزيمة القوم.

.تفسير الآيات (28- 29):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)}
النجس مصدر لا يثنى ولا يجمع، يقال رجل نجس، وامرأة نجس، ورجلان نجس، وامرأتان نجس، ورجال نجس، ونساء نجس. ويقال: نجس ونجس بكسر الجيم وضمها. ويقال: نجْس بكسر النون وسكون الجيم وهو تخفيف من المحرك. قيل: لا تستعمل إلا إذا قيل معه رجس؛ وقيل ذلك أكثريّ لا كليّ. و{المشركون} مبتدأ، وخبره المصدر، مبالغة في وصفهم بذلك حتى كأنهم عين النجاسة، أؤ على تقدير مضاف: أي ذوو نجس؛ لأن معهم الشرك وهو بمنزلة النجس.
وقال قتادة ومعمر وغيرهما: إنهم وصفوا بذلك لأنهم لا يتطهرون، ولا يغتسلون، ولا يتجنبون النجاسات.
وقد استدل بالآية من قال بأن المشرك نجس الذات، كما ذهب إليه بعض الظاهرية والزيدية.
وروي عن الحسن البصري، وهو محكيّ عن ابن عباس.
وذهب الجمهور من السلف والخلف ومنهم أهل المذاهب الأربعة إلى أن الكافر ليس بنجس الذات؛ لأن الله سبحانه أحلّ طعامهم، وثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك من فعله، وقوله، ما يفيد عدم نجاسة ذواتهم، فأكل في آنيتهم، وشرب منها، وتوضأ فيها، وأنزلهم في مسجده.
قوله: {فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام} الفاء للتفريع، فعدم قربانهم للمسجد الحرام متفرّع على نجاستهم. والمراد بالمسجد الحرام: جميع الحرم، روي ذلك عن عطاء، فيمنعون عنده من جميع الحرم، وذهب غيره من أهل العلم إلى أن المراد المسجد الحرام نفسه، فلا يمنع المشرك من دخول سائر الحرم.
وقد اختلف أهل العلم في دخول المشرك غير المسجد الحرام من المساجد؛ فذهب أهل المدينة إلى منع كل مشرك عن كل مسجد.
وقال الشافعي: الآية عامة في سائر المشركين خاصة في المسجد الحرام، فلا يمنعون من دخول غيره من المساجد. قال ابن العربي: وهذا جمود منه على الظاهر؛ لأن قوله تعالى: {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ} تنبيه على العلة بالشرك والنجاسة، ويجاب عنه بأن هذا القياس مردود بربطه صلى الله عليه وسلم لثمامة بن أثال في مسجده، وإنزال وفد ثقيف فيه.
وروي عن أبي حنيفة مثل قول الشافعي، وزاد أنه يجوز دخول الذمي سائر المساجد من غير حاجة، وقيده الشافعي بالحاجة.
وقال قتادة: إنه يجوز ذلك للذميّ دون المشرك.
وروى عن أبي حنيفة أيضاً أنه يجوز لهم دخول الحرم والمسجد الحرام وسائر المساجد، ونهى المشركين عن أن يقربوا المسجد الحرام هو نهي المسلمين عن أن يمكنوهم من ذلك، فهو من باب قولهم: لا أرينك هاهنا.
قوله: {بَعْدَ عَامِهِمْ هذا} فيه قولان: أحدهما: أنه سنة تسع، وهي التي حج فيها أبو بكر على الموسم. الثاني: أنه سنة عشر قاله قتادة، قال ابن العربي: وهو الصحيح الذي يعطيه مقتضى اللفظ، ومن العجب أن يقال: إنه سنة تسع، وهو العام الذي وقع فيه الأذان، ولو دخل غلام رجل داره يوماً فقال له مولاه: لا تدخل هذه الدار بعد يومك، لم يكن المراد اليوم الذي دخل فيه.
انتهى. ويجاب عنه بأن الذي يعطيه مقتضى اللفظ هو خلاف ما زعمه، فإن الإشارة بقوله: {بَعْدَ عَامِهِمْ هذا} إلى العام المذكور قبل اسم الإشارة وهو عام النداء، وهكذا في المثال الذي ذكره، المراد النهي عن دخولها بعد يوم الدخول الذي وقع فيه الخطاب، والأمر ظاهر لا يخفى، ولعله أراد تفسير ما بعد المضاف إلى عامهم ولا شك أنه عام عشر، وأما تفسير العام المشار إليه بهذا، فلا شك ولا ريب أنه عام تسع، وعلى هذا يحمل قول قتادة.
وقد استدلّ من قال بأنه يجوز للمشركين دخول المسجد الحرام وغيره من المساجد بهذا القيد، أعني قوله: {بَعْدَ عَامِهِمْ هذا} قائلاً إن النهي مختصّ بوقت الحج والعمرة، فهم ممنوعون عن الحج والعمرة فقط، لا عن مطلق الدخول. ويجاب عنه بأن ظاهر النهي عن القربان بعد هذا العام يفيد المنع من القربان في كل وقت من الأوقات الكائنة بعده، وتخصيص بعضها بالجواز يحتاج إلى مخصص. قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ} العيلة: الفقر، يقال: عال الرجل يعيل: إذا افتقر، قال الشاعر:
وما يدري الفقير متى غناه ** وما يدري الغني متى يعيل

وقرأ علقمة وغيره من أصحاب ابن مسعود: {عايلة} وهو مصدر: كالقايلة والعافية والعاقبة؛ وقيل: معناه: خصلة شاقة، يقال عالني الأمر يعولني: أي شقّ عليّ واشتدّ.
وحكى ابن جرير الطبري أنه يقال: عال يعول: إذا افتقر. وكان المسلمون لما منعوا المشركين من الموسم وهم كانوا يجلبون إليه الأطعمة والتجارات، قذف الشيطان في قلوبهم الخوف من الفقر، وقالوا: من أين نعيش؟ فوعدهم الله أن يغنيهم من فضله. قال الضحاك: ففتح الله عليهم باب الجزية من أهل الذمة بقوله: {قاتلوا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله} الآية.
وقال عكرمة: أغناهم بإدرار المطر والنبات وخصب الأرض، وأسلمت العرب فحملوا إلى مكة ما أغناهم الله به. وقيل: أغناهم بالفيء، وفائدة التقييد بالمشيئة: التعليم للعباد بأن يقولوا ذلك في كل ما يتكلمون به، مما له تعلق بالزمن المستقبل، ولئلا يفتروا عن الدعاء والتضرّع {إِنَّ الله عَلِيمٌ} بأحوالكم {حَكِيمٌ} في إعطائه ومنعه، ما شاء كان ومالم يشأ لم يكن.
قوله: {قاتلوا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله} الآية، فيه الأمر بقتال من جمع بين هذه الأوصاف. قال أبو الوفاء بن عقيل: إن قوله: {قَاتَلُواْ} أمر بالعقوبة، ثم قال: {الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله} فبين الذنب الذي توجبه العقوبة، ثم قال: {وَلاَ باليوم الآخر} فأكد الذنب في جانب الاعتقاد، ثم قال: {وَلاَ يُحَرِمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ} فيه زيادة للذنب في مخالفة الأعمال، ثم قال: {وَلاَ يَدِينُونَ دِيِنَ الحق} فيه إشارة إلى تأكيد المعصية بالانحراف والمعاندة، والأنفة عن الاستسلام، ثم قال: {مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} تأكيد للحجة عليهم؛ لأنهم كانوا يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، ثم قال: {حتى يُعْطُواْ الجزية} فبيّن الغاية التي تمتد إليها العقوبة.
انتهى.
قوله: {مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} بيان للموصول مع ما في حيزه وهم أهل التوراة والإنجيل. قوله: {حتى يُعْطُواْ الجزية عَن يَدٍ} الجزية وزنها فعلة من جزى يجزي: إذا كافأ عما أسدي إليه، فكأنهم أعطوها جزاء عما منحوا من الأمن. وقيل: سميت جزية؛ لأنها طائفة مما على أهل الذمة أن يجزوه: أي يقضوه، وهي في الشرع: ما يعطيه المعاهد على عهده، و{عَن يَدٍ} في محل نصب على الحال. والمعنى: عن يد مواتية غير ممتنعة. وقيل: معناه: يعطونها بأيديهم غير مستنيبين فيها أحداً. وقيل: معناه: نقد غير نسيئة. وقيل: عن قهر. وقيل: معناه: عن إنعام منكم عليهم؛ لأن أخذها منهم نوع من أنواع الإنعام عليهم. وقيل: معناه: مذمومون.
وقد ذهب جماعة من أهل العلم منهم الشافعي، وأحمد، أبو حنيفة، وأصحابه والثوري، وأبو ثور، إلى أنها لا تقبل الجزية إلا من أهل الكتاب.
وقال الأوزاعي ومالك: إن الجزية تؤخذ من جميع أجناس الكفرة كائناً من كان، ويدخل في أهل الكتاب على القول الأوّل: المجوس. قال ابن المنذر: لا أعلم خلافاً في أن الجزية تؤخذ منهم.
واختلف أهل العلم في مقدار الجزية. فقال عطاء: لا مقدار لها. وإنما تؤخذ على ما صولحوا عليه، وبه قال يحيى بن آدم، وأبو عبيد، وابن جرير إلا أنه قال: أقلها دينار، وأكثرها لا حدّ له.
وقال الشافعي: دينار على الغنيّ والفقير من الأحرار البالغين لا ينقص منه شيء، وبه قال أبو ثور. قال الشافعي: وإن صولحوا على أكثر من دينار جاز، وإذا زادوا وطابت بذلك أنفسهم قبل منهم.
وقال مالك: إنها أربعة دنانير على أهل الذهب. وأربعون درهماً على أهل الورق، الغنيّ والفقير سواء، ولو كان مجوسياً لا يزيد ولا ينقص.
وقال أبو حنيفة وأصحابه، ومحمد بن الحسن، وأحمد بن حنبل: اثنا عشر، وأربعة وعشرون، وثمانية وأربعون. والكلام في الجزية مقرّر في مواطنه، والحق من هذه الأقوال قد قرّرناه في شرحنا للمنتقى وغيره من مؤلفاتنا.
قوله: {وَهُمْ صاغرون} في محل نصب على الحال، والصغار: الذالّ. والمعنى: إن الذميّ يعطى الجزية حال كونه صاغراً، قيل: وهو أن يأتي بها بنفسه ماشياً غير راكب، ويسلمها وهو قائم، والمتسلم قاعد. وبالجملة ينبغي للقابض للجزية أن يجعل المسلم لها حال قبضها صاغراً ذليلاً.
وقد أخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن جابر بن عبد الله، في قوله: {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ} الآية قال: إلا أن يكون عبداً أو أحداً من أهل الذمة.
وقد روي مرفوعاً من وجه آخرج أخرجه ابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل مسجدنا هذا بعد عامنا هذا مشرك إلا أهل العهد وخدمكم» قال ابن كثير: تفرّد به أحمد مرفوعاً. والموقوف: أصح.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، قال: كان المشركون يجيئون إلى البيت ويجيئون معهم بالطعام يتجرون به، فلما نهوا عن أن يأتوا البيت. قال المسلمون: فمن أين لنا الطعام؟ فأنزل الله: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ إِن شَاء} قال: فأنزل الله عليهم المطر، وكثر خيرهم حين ذهب المشركون عنهم.
وأخرج ابن مردويه، عنه، قال: فأغناهم الله من فضله، وأمرهم بقتال أهل الكتاب.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن عكرمة، في قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} قال: الفاقة.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير، في قوله: {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ} قال: بالجزية.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، عن الضحاك مثله.
وأخرج نحوه عبد الرزاق عن قتادة.
وأخرج أبو الشيخ، عن الحسن، في قوله: {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ} قال: قذر.
وأخرج أبو الشيخ عنه، أيضاً قال: من صافحهم فليتوضأ.
وأخرج أبو الشيخ، وابن مردويه، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صافح مشركاً فليتوضأ أو ليغسل كفيه».
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والبهيقي في سننه، عن مجاهد، في قوله: {قاتلوا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله} قال: نزلت هذه الآية حين أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه بغزوة تبوك.
وأخرج ابن المنذر، عن ابن شهاب، قال: نزلت في كفار قريش والعرب {وقاتلوهم حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} وأنزلت في أهل الكتاب: {قاتلوا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله} الآية إلى قوله: {حتى يُعْطُواْ الجزية} فكان أول من أعطى الجزية أهل نجران.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن سعيد بن جبير، في قوله: {قاتلوا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله} يعني: الذين لا يصدّقون بتوحيد الله {وَلاَ يُحَرِمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ} يعني الخمر والحرير {وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحق} يعني: دين الإسلام {مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب حتى يُعْطُواْ الجزية عَن يَدٍ وَهُمْ صاغرون} يعني: مذللون.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة، في قوله: {عَن يَدٍ} قال: عن قهر.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن سفيان بن عيينة، في قوله: {عَن يَدٍ} قال: من يده ولا يبعث بها غيره.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن أبي سنان في قوله: {عَن يَدٍ} قال: عن قدرة.
وأخرج ابن المنذر، عن ابن عباس، في قوله: {وَهُمْ صاغرون} قال: يمشون بها متلتلين.
وأخرج ابن أبي حاتم، عنه، قال: يلكزون.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن سلمان، في الآية قال: غير محمودين.